ترجمة أ.حمادة عبدالسلام
المؤسسة البحرينية للتربية الخاصة
التوحد اضطراب محير، ومعقد كثيراً.. تتوزع خصائصه على أربعة جوانب أساسية هي:
- تحديات المعالجة الحسية.
- تأخر وإعاقات الكلام واللغة.
- مهارات التفاعل الاجتماعي المحيرة.
- شؤون تقدير الذات لدى الطفل بكليته.
ومع أن خصائص كثيرة في هذه الجوانب قد تشيع لدى عدد كبير من الأطفال، إلا أنه لا بد من التذكر دائماً بأن التوحد اضطراب طيفي، إذ لا يوجد اثنان (أو عشرة، أو عشرين) من الأطفال التوحديين متماثلين تماماً. فكل طفل يقع عند نقطة مختلفة من نقاط هذا الطيف أو هذه السلسلة . كما أن كل والد أو معلم لطفل توحدي واقع على نقطة مختلفة من هذا الطيف. والفرد، طفلا كان أو راشداً، له مجموعة احتياجات مختلفة عن غيره.
وهنالك عشرة أشياء يتمنى كل طفل توحدي على الآباء والمعلمين ومانحي الرعاية معرفتها. وهذه الأشياء العشرة متعلقة بخصائص التوحد.. فمعرفة هؤلاء الأشخاص المحيطين بالطفل التوحدي- سواء كانوا آباء أو معلمين- بهذه الأشياء أو الخصائص العشرة لها تأثير كبير على قدرة هؤلاء الأطفال في المسير بهم نحو مرحلة بلوغ أو نضج مستقلة ومنتجة.
- أنا، أولاً وقبل كل شئ، طفل. صحيح أن لدي توحد، ولكني لست توحدياً، في المقام الأول، كما تتخيلون. وما توحدي إلا مظهر واحد من مظاهر شخصيتي الكلية. لذا فهذا التوحد لوحده لا يعرّفني كشخص. فهل أنت شخص لديه أفكار، ومشاعر ومواهب كثيرة، أم أنك مجرد شخص سمين أو قصير تلبس نظارات، أو أنك أخرق لا تحسن ممارسة الألعاب الرياضية؟
قد تكون هذه كلها أشياء رأيتها فيك عندما قابلتك أول مرة، مع أنها لا تعكس بالضرورة واقعك الحقيقي. وأنت، بصفتك شخصاً راشداً، لديك القدرة على ضبط الأسلوب الذي تقدم فيه نفسك وتعرف الغير على شخصك. فإذا أردت أن تبرز إحدى خصائصك أمكنك ذلك. أما أنا، بوصفي طفلاً، فلا أزال في طور النمو، ومازالت خواصي تتدرج في النشوء. فلا أنت ولا أنا يعرف ما أقدر على القيام به الآن. لذا فإن تعريفي بخاصية واحدة يجعل توقعك فيما أقدر عليه منخفضاً جداً. وإذا تولد لدي إحساس بأنك لا تعتقد بأنني"قادر على فعل شئ ما"، فإن استجابتي الطبيعية لما تطلب مني، هي "لم أحاول القيام بذلك"؟
- إن التكامل الحسي هو أكثر الجوانب صعوبة على الفهم، بالنسبة لي، وهو الجانب الأكثر حرجاً وخطراً. وهذا يعني أن المناظر، والأصوات، والروائح، والأذواق، واللمسات التي أحس بها في كل يوم، والتي قد لا تلاحظها أو تشعر بها أنت، كثيرا ما تكون مؤلمة بالنسبة لي بشكل مباشر وصريح. لذا فإن البيئة الحقيقية التي علي أن أعيش فيها تبدو عدائية في أغلب الأحيان. فقد أبدو، بالنسبة لك، انسحابياً أو عدوانياً، ولكنني في الواقع أحاول فقط الدفاع عن نفسي. وهذا هو السبب الذي يجعل رحلة "بسيطة" إلى مجمع تجاري تبدو وكأنها جهنم بالنسبة لي: فسمعي قد يكون مفرطاً في حدته، إذ أسمع عشرات الأصوات تتحدث في نفس الوقت، إضافة إلى صوت مكبر الصوت الذي يصدح هادراً بإعلانه عن تخفيضات في ذلك اليوم على سلع معينة. وأصوات الآلات الحاسبة تملأ المكان بدقاتها المختلفة، والاهتزازات والأصوات الشبيهة بأصوات الإنفجارات تصدر عن مطاحن القهوة، وأدوات تقطيع اللحم تصدر أصواتاً مثيرة للرعب، وهناك أطفال يصرخون ويبكون بصوتٍ عالٍ، وعربات الشراء تجول في المكان بأزير عجلاتها المتنقل، وأضواء الفلورسنت تهمهم وتدندن.
- إن دماغي عاجز عن تصفية جميع هذه المدخلات المزعجة، فأصبحت مثقلا بهذا العبء الثقيل الذي يفوق طاقتي على الاحتمال! فحاسة الشم لدي حساسة جدا. فالسمك الموجود بجانب زاوية اللحم غير طازج تماماً، والشاب الذي يقف إلى جانبي لم يستحم في ذلك اليوم، حيث رائحة عرقه تزكم أنفي، والطفل الصغير الذي يقف أمامي في الطابور يرتدي حفاظاً سيئاً ومهترئاً حيث رائحة كريهة تفوح في كل مكان، وعمال النظافة يمسحون أرضية الجناح رقم 3 بمحلول الأمونيا ذي الرائحة القوية المنفرة... فلا قدرة لي على تحمل هذه الروائح كافة، بل لا قدرة لي على التعامل معها.
- نظراً لأنني مُوجه بصرياً، فقد تكون حاستي البصرية هي أولى الحواس التي تثار بإفراط. فضوء الفلورسنت ليس لامعاً جداً فقط، لكنه يدندن ويطن. والغرفة تبدو لي بأنها متذبذبة فتؤذي عيني. فالضوء المتذبذب يجعل كل شئ في هذا المكان يتذبذب فتتأذى عيني... ويظهر لي أن أن الحيز المكاني يتغير باستمرار، وهناك وهج ساطع آتٍ عبر النوافذ.. أشياء كثيرة حولي علي أن أركز عليها (ويمكنني التعويض عن ذلك بـِ ("رؤية النفق").. وهنالك المراوح المثبتة في السقف تتحرك، كما أن أجساما أخرى كثيرة في هذا المكان في حركة دائبة.. كل هذه تؤثر على حاستي الدهليزية، وعلى الإحساس بوضع جسمي في الفراغ.
- تذكر، من فضلك، أن تمييز بين "لم أختر أن أقوم بـ..." و "لا أستطيع القيام بـ...". فاللغة التعبيرية والاستقبالية والمفردات تشكل تحديات رئيسة بالنسبة لي. فعندما تطلب مني شيئاً من خلال صياح عبر الغرفة، فلن أعي ما تقول، بل هذا الذي أسمعه: "هاني! س ش م * وَ % #...، أي أسمع رموزا وحروفا ورطانة لا معنى لها. لذا بدلاً من ذلك اقترب مني وقل لي مباشرة بكلمات بسيطة واضحة: "محمد ضع، من فضلك، الكتاب داخل مقعدك، حان الوقت لتناول الغذاء". فهذا الأسلوب يخبرني بما تريد أن أفعل وما سيحدث لا حقاً. وبذا يكون طلبك سهلا جدا بالنسبة لي كي أمتثل له أو أنفذه. ومن هنا يمكن القول أن الأسر لا يكمن في عدم رغبتي في الإصغاء إلى التعليمات الصادرة عن الغير، بل في عدم فهمي لها.
- أنا مفكر مادي. وهذا يعني أنني أفسر اللغة بصورة حرفية جدا. لذا أتشوش كثيرا عندما تقول لي :"قيد خيولك يا فارس الزمان! وأنت تعني بذلك "توقف عن الجري، من فضلك". وعندما تطلب مني شيئاً وتخبرني بأن القيام به سهل جدا، أرجو ألا تستخدم هذه العبارة الدارجة "أسهل من أكل قطعة من الكعك "عندما لا يكون أمام عيني أي معجنات أو حلويات. وعندما تقول لي: "حقا لقد أشعل جمال المضمار" قاصداً بذلك بأنه سريع جداً، أرجو أن تقول لي مباشرة "جمال ركض بسرعة كبيرة جداً. فالمصطلحات، والتوريات، والجناس، والاستدلالات، والعبارات البلاغية، والإشارات الضمنية لا وجود لها في لغتي.
- أرجو أن تكون صبورا على مفرداتي المحدودة. إذ من الصعب جدا أن أخبرك بما أريد عندما تعوزني الكلمات التي تساعدني على وصف مشاعري... فقد أكون جائعاً، محبطاً، خائفا أو مشوشاً، لكن الكلمات التي تعبر عن ذلك هي فوق قدرتي على التعبير. لذا، كن متيقظا على لغة الجسد، أو الانسحاب الاجتماعي، أو التفجر الانفعالي، او الغضب، أو أية إشارات أخرى تفيد بأن شيئا ما يواجهني هو غير مقبول بالنسبة لي.. أو أن هنالك جانباً آخر لهذا كله: فقد أبدو مثل "أستاذ صغير"، أو نجم سينمائي، حيث أثرثر بكلمات أو نصوص كاملة تتجاوز عمري التطوري كثيرا. وما هذه الكلمات أو النصوص إلا رسائل حفظتها عن ظهر قلب من العالم المحيط بي لأعوض بها عن عيوبي اللغوية لأنني أعلم بأنه يتوقع مني أن أستجيب للآخرين عندما يتكلمون. فقد تأتي هذه الكلمات او النصوص من الكتب، أو التلفاز، أو كلام الناس الآخرين، وهذه تدعى المصاداة "الإيكوليليا". وليس بالضرورة أن أكون فاهماً للمصطلحات التي أستخدمها أو مدركا للسياق الذي تقال فيه. وكل ما أعرفه أنها تخلصتي من ورطة عندما يتعين علي الرد على الآخرين أو الإجابة على أسئلتهم.
- ونظرا لأن اللغة صعبة جداً بالنسبة لي، فإنني جدا موجه بصرياً. أرني، من فضلك، كيف تعمل شيئا معينا بدلاً من مجرد إخباري بأن علي أن أقوم بهذا الشئ الذي لا معرفة لي به. أي، أرجو أن يكون لديك الاستعداد بأن تريني طريقة عمله مرات عديدة قبل أن تطلب مني القيام به. فالتكرار المستمر يساعدني على التعلم. والمخطط البصري يساعدني كثيراً، وهو، تماماً مثل الخطة اليومية التي تستخدمها أنت، إذ يخلصني من الإجهاد والتوتر بجعلني أتذكر ما سيأتي لاحقاً، بل يساعدني على إدارة وقتي، ويعمل على انتقالي بشكل سلس عبر نشاطاتي اليومية، ويلبي توقعاتي. وتظل حاجتي إلى المخطط البصري مستمرة مع تقدمي في العمر، "لكن مستوى التمثيل" قد يتغير لدي. فأنا بحاجة إلى مخطط أو جدول بصري وصور أو رسومات بسيطة عندما لا أكون قادراً على القراءة. ومع تقدمي في العمر، يمكن أن يكون ائتلاف الكلمات والصور معينا ناجحاً بالنسبة لي. وفيما بعد، فإن مجرد كلمات لوحدها تساعدني على النجاح.
- أرجو أن تركز على ما أستطيع عمله وتعززه بدلاً من تركيزك على مالا أستطيع عمله. فأنا، كأي إنسان آخر، لا أستطيع التعلم في بيئة حيث فيها يجعلني الآخرون أشعر باستمرار أنني لست جيداً وبحاجة إلى "تصليح". وهذا يجنبني محاولة القيام بأي شئ جديد لأنني متأكد بأن محاولتي ستقابل بالنقد من الغير. لذا، عليك أن تبحث عن مواطن القوة لدي، لأنك إن فعلت ذلك فستجدها.
- وأرجو أن تساعدني في التفاعلات الاجتماعية. قد أبدو أحياناً بأنني عازف عن اللعب مع الآخرين، إلا أن ذلك راجع إلى عدم معرفتي بكيفية بدء محادثة مع أطفال آخرين أو الانضمام اليهم في اللعب. وسأكون مسروراً إذا تمكنت من تشجيع الأطفال الآخرين على دعوتي إلى الانضمام لهم في لعب كرة القدم أو كرة السلة، علماً بأنني أعمل جيدا في نشاطات اللعب المنظمة التي لها بداية ونهاية واضحتان.
ولا أعرف كيف "أقرأ" تعبيرات الوجه، أو لغة الجسد، أو انفعالات الآخرين، لذا، أثمن عاليا إذا ما قمت بتدربي المستمر على الاستجابة الاجتماعية المناسبة. فمثلاً، عندما تسقط سعاد عن دراجتها، وأقوم بالضحك، فلا يعني هذا بأنني اعتقدت أن السقوط مضحك، بل يعني عدم معرفتي بالاستجابة الملائمة لهذا الحدث. علمني ان أقول بدلاً من الضحك "الحمد الله على السلامة... بسيطة إن شاء الله " "هل أنت على ما يرام".
- حاول أن تتعرف على ما يثيرني ويجعل أموري أكثر مأساوية. فالأمور المأساوية، والانفجارات الانفعالية، ونوبات الغضب، أو أي شئ تريد أن تدعوها به، هي أكثر بغضا لي منك. فهذه الأمور المأساوية، تحدث لي لأن حاسة أو أكثر من حواسي تعرضت لزيادة مفرطة في الحمولة. فإذا تمكنت من اكتشاف أسبابها، أمكنك منع حدوثها. لذا عليك أن تحتفظ بسجل لحدوثها، والأوقات التي تُلاحظ فيها، وكذلك البيئات والأشخاص، والنشاطات ساعة حدوثها. إذ قد ينشأ نموذج لها. ولا تنسى أن السلوك برمته هو أحد أشكال التواصل. لذا أطالب الآباء بأن يتذكروا دوماً أن للسلوك المستمر سبباً طبياً أساسياً. فالحساسيات من الأطعمة، واضطرابات النوم، ومشكلات الجهاز الهضمي جميعها لها تأثير على السلوك.
وأخيرا، أود أن أهمس في أذن كل من أمي، وأبي، ومعلمي: أحبني دون شروط. تخلص من بعض الأفكار، مثل "لو أنه فقط..." و"لم لا تستطيع هي أن ..."
ليس بإمكاني أن أحقق جميع ما تتوقعون مني.. ولا أحب أن تذكروني باستمرار بكل توقع تودون مني إنجازه. فأنا لم أختر أن يكون لدي توحد... وتذكروا أن هذا التوحد يحدث معي وليس معكم. إن فرص نجاحي في أن أعيش مرحلة رشد ناجحة ومعتمدة على الذات هي قليلة .. لكن بدعمكم، وتوجيهاتكم تكون احتمالات النجاح أوسع كثيرا مما تظنون. وأنا بدوري أعدكم بأني أستحق ذلك.. ولا بد من تذكيركم بثلاث كلمات فقط: الصبر. الصبر. الصبر. أرجو أن تنظروا إلى توحدي كقدرة مختلفة لا كصعوبة، ولتتجاوز نظرتكم ما ترونه في كعجز وقيود ومحددات، وانظروا إلى المواهب التي منحني إياها التوحد. قد تصح نظرتكم بأنني لست جيداً في الاتصال البصري أو المحادثة، ولكن ألم تلاحظوا بأنني لا أكذب، لا أغش في الألعاب ولا أثرثر ضد زملائي في الصف، ولا أصدر أحكاماً ظالمة على الأشخاص الآخرين؟
أمي! أبي! معلمي!
كونوا محامين لي، بل كونوا أصدقاء حميمين وسترون كم من النجاحات أحقق بدعمكم وصبركم!
|